فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{كم} في موضع رفع بالابتداء والخبر {أهلكناها}، ويصح أن يكون الخبر في قوله: {فجاءها} و{أهلكناها} صفة، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مقدر بعدها تقديره وكم أهلكنا من قرية أهلكناها، وقدر الفعل بعدها- وهي خبرية- تشبيهًا لها بالاستفهامية في أن لها في كل حال صدر الكلام، وقالت فرقة المراد وكم من أهل قرية وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقام المضاف، وقالت فرقة إنما عبر بالقرية لأنها أعظم في العقوبة إذا هلك البشر وقريتهم، وقد بين في آخر الآية بقوله: {أوهم} أن البشر داخلون في الهلاك، فالآية على هذا التأويل تتضمن هلاك القرية وأهلها جميعًا، وعلى التأويل الأول تتضمن هلاك الأهل ولا معنى لذكر القرية، والمراد بالآية التكثير، وقرأ ابن أبي عبلة: {وكم من قرية أهلكناهم فجاءهم بأسنا}. وقوله: {فجاءها} يقتضي ظاهره أن المجيء بعد الإهلاك، وذلك، وذلك مستحيل فلم يبق إلا أن يعدل على ظاهر هذا التعقيب فقيل الفاء قد تجيء بمنزلة الواو ولا تعطى رتبة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وقيل عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك، قال مكي في المشكل: مثل قوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} [النحل: 98].
قال القاضي أبو محمد: وهذا يحتج به في تأويل من قال الفاء في هذه الآية لتعقيب القول، وقيل المعنى {أهلكناها} بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك، وقال الفراء وحكاه الطبري أن الإهلاك هو مجيء البأس ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبال أيهما قدم في الرتبة، وقيل إن الفاء لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس.
و{بيانًا} نصب على المصدر في موضع الحال، و{قائلون} من القائلة، وإنما خص وقتي الدعة والسكون لأن مجيء العذاب فيهما أفظع وأهول لما فيه من البغت والفجأة، و{أو} في هذا الموضع كما تقول: الناس في فلان صنفان حامد أو ذام، فكأنه قال جاءهم بأسنا فرقتين بائتين أو قائلين، وهذا هو الذي يسمى اللف، وهو إجمال في اللفظ يفرقه ذهن المخاطب دون كلفة، والبأس: العذاب، وقيل: المراد أو وهم قائلون فكره اجتماع حرفي العطف فحذفت الواو وهذا تكلف لأن معنى اللف باق. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها} {كم} تدل على الكثرة، ورب موضوعة للقلة.
قال الزجاج: المعنى: وكم من أهل قرية، فحذف الأهل، لأن في الكلام دليلًا عليه.
وقوله تعالى: {فجاءها بأسنا} محمول على لفظ القرية؛ والمعنى: فجاءهم بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له؛ إما ليلًا وهم نائمون، أو نهارًا وهم قائلون.
قال ابن قتيبة: بأسنا: عذابنا.
وبياتا: ليلًا.
وقائلون: من القائلة نصف النهار.
فإن قيل: إنما أتاها البأس قبل الإهلاك، فكيف يقدَّم الهلاك؟ فعنه ثلاثة أجوبة.
أحدها: أن الهلاك والبأس، يقعان معًا، كما تقول: أعطيتني فأحسنت؛ وليس الإحسان بعد الإِعطاء ولا قبله، وإنما وقعا معًا، قاله الفراء.
والثاني: أن الكون مضمر في الآية، تقديره: أهلكناها، وكان بأسنا قد جاءها، فأُضمر الكون، كما أُضمر في قوله: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين} [البقرة: 102] أي: ما كانت الشياطين تتلوه.
وقوله تعالى: {إن يسرق} [يوسف: 77] أي: إن يكن سرق.
والثالث: أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، تقديره: وكم من قرية جاءها بأسنا بياتًا، أو هم قائلون، فأهلكناها، كقوله تعالى: {إني متوفيك ورافعك إليَّ} [آل عمران: 55] أي: رافعك ومتوفيك، ذكرهما ابن الانباري.
قوله تعالى: {أو هم قائلون} قال الفراء: فيه واو مضمرة؛ والمعنى: فجاءها بأسنا بياتًا، أو وهم قائلون، فاستثقلوا نسقًا على نسق. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} {كم} للتكثير؛ كما أن رُبَّ للتقليل.
وهي في موضع رفع بالابتداء، وأهلكنا الخبر.
أي وكثير من القرى وهي مواضع اجتماع الناس أهلكناها.
ويجوز النصب بإضمار فعل بعدها، ولا يقدّر قبلها؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
ويقوّي الأوّل قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17].
ولولا اشتغال أَهْلَكْنَا بالضمير لانتصب به موضع كم.
ويجوز أن يكون {أَهْلَكْنَا} صفة للقرية، {وكم} في المعنى هي القرية؛ فإذا وصفت القرية فكأنك قد وصفت كم.
يدل على ذلك قوله تعالى: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [النجم: 26] فعاد الضمير على {كم} على المعنى؛ إذ كانت الملائكة في المعنى.
فلا يصح على هذا التقدير أن يكون {كم} في موضع نصب بإضمار فعل بعدها.
{فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} فيه إشكال للعطف بالفاء.
فقال الفرّاء: الفاء بمعنى الواو، فلا يلزم الترتيب.
وقيل: أي وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا؛ كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم} [النحل: 98].
وقيل: إن الهلاك واقع ببعض القوم؛ فيكون التقدير: وكم من قرية أهلكنا بعضها فجاءها بأسنا فأهلكنا الجميع.
وقيل: المعنى وكم من قرية أهلكناها في حكمنا فجاءها بأسنا.
وقيل: أهلكناها بإرسالنا ملائكة العذاب إليها، فجاءها بأسنا وهو الاستئصال.
والبأس: العذاب الآتي على النفس.
وقيل: المعنى أهلكناها فكان إهلاكنا إياهم في وقت كذا؛ فمجيء البأس على هذا هو الإهلاك.
وقيل: البأس غير الإهلاك؛ كما ذكرنا.
وحكى الفرّاء أيضًا أنه إذا كان معنى الفعلين واحدًا أو كالواحد قدّمت أيهما شئت؛ فيكون المعنى وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها؛ مثل دَنَا فقَرُب، وقَرُب فدنا، وشتمني فأساء، وأساء فشتمني؛ لأن الإساءة والشتم شيء واحد.
وكذلك قوله: {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1].
المعنى والله أعلم انشق القمر فاقتربت الساعة.
والمعنى واحد.
{بَيَاتًا} أي ليلًا؛ ومنه البيت، لأنه يبات فيه.
يقال: بات يبِيت بيتًا وبياتًا.
{أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} أي أو وهم قائلون، فاستثقلوا فحذفوا الواو؛ قاله الفرّاء.
وقال الزجاج: هذا خطأ، إذا عاد الذكرُ استغني عن الواو، تقول: جاءني زيد راكبًا أو هو ماش، ولا يحتاج إلى الواو.
قال المهدويّ: ولم يقل بياتًا أو وهم قائلون لأن في الجملة ضميرًا يرجع إلى الأوّل فاستغنى عن الواو.
وهو معنى قول الزجاج سواء، وليس أو للشك بل للتفصيل؛ كقولك: لأكرِمنّك منصفًا لي أو ظالمًا.
وهذه الواو تسمى عند النحويين واو الوقت.
و{قَائِلُونَ} من القائلة وهي القيْلُولة؛ وهي نوم نصف النهار.
وقيل: الاستراحة نصفَ النهار إذا اشتدّ الحرّ وإن لم يكن معها نوم.
والمعنى: جاءهم عذابنا وهم غافلون إمّا ليلًا وإمّا نهارًا. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها}
لما أمر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإنذار والإبلاغ، وأمر أمته باتباع ما أنزله إليهم حذرهم نقمته وبأسه إن لم يتبعوا ما أمروا به فذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عن أمره من الوعيد فقال تعالى: {وكم من قرية أهلكناها}، قيل: فيه حذف تقديره وكم من أهل قرية لأن المقصود بالإهلاك أهل القرية لا القرية، وقيل: ليس فيه حذف لأن إهلاك القرية إهلاك لأهلها {فجاءها بأسنا} يعني عذابنا.
فإن قلت مجيء البأس وهو العذاب إنما يكون قبل الإهلاك فكيف قال أهلكناها فجاءها بأسنا؟
قلت: معناه وكم من قرية حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا.
وقال الفراء: الهلاك والبأس قد يقعان معًا كما يقال أعطيتني فأحسنت إليّ فلم يكن الإحسان قبل الإعطاء ولا بعده وإنما وقعا معًا.
وقال غيره: لا فرق بين قولك أعطيتني فأحسنت إليّ أو أحسنت إليّ فأعطيتني فيكون أحدهما بدلًا من الآخر {بياتًا} يعني فجاءها عذابنا ليلًا قبل أن يصبحوا {أو هم قائلون} من القيلولة وهي نوم نصف النهار أو استراحة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم والمعنى فجاءها بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له ليلًا وهم نائمون أو نهارًا وهم قائلون وقت الظهيرة وكل ذلك وقت الغفلة.
ومقصود الآية أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم منغير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب وفيه وعيد وتخويف للكفار كأنه قيل لهم لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة فإن عذاب الله إذا نزل نزل دفعة واحدة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قَائلون}
{كم} هنا خبرية التقدير وكثير من القرى أهلكناها وأعاد الضمير في أهلكناها على معنى كم وهي في موضع رفع بالابتداء وأهلكناها جملة في موضع الخبر وأجازوا أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره أهلكناها تقديره وكم من قرية أهلكنا أهلكناها ولابد في الآية من تقدير محذوف مضاف لقوله أو هم قائلون فمنهم من قدّره وكم من أهل قرية ومنهم من قدّره أهلكنا أهلها وينبغي أن يقدّر عند قوله: {فجاءها} أي فجاء أهلها لمجيء الحال من أهلها بدليل أو هم قائلون لأنه يمكن إهلاك القرى بالخسف والهدم وغير ذلك فلا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف قبل قوله: {فجاءها}.
وقرأ ابن أبي عبلة {وكم من قرية أهلكناهم فجاءهم} فيقدّر المضاف وكم من أهل قرية ولابد من تقديره صفة للقرية محذوفة أي من قرية عاصية ويعقّب مجيء البأس وقوع الإهلاك لا يتصوّر فلابد من تجوّز إما في الفعل بأن يراد به أردنا إهلاكها أو حكمنا بإهلاكها {فجاءها بأسنا} وأما أن يختلف المدلولان بأن يكون المعنى أهلكناها بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك وإما أن يكون التجوّز في الفاء بأن تكون بمعنى الواو وهو ضعيف أو تكون لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس.
وقال الفرّاء: إنّ الإهلاك هو مجيء البأس ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبالِ أيّهما قدّم في الرتبة، كما تقول شتمني فأساء وأساء فشتمني لأن الإساءة والشتم شيء واحد.
وقيل: الفاء ليست للتعقيب وإنما هي للتفسير، كقوله: توضّأ فغسل كذا ثم كذا وانتصب بيانًا على الحال وهو مصدر أي {فجاءها بأسنا} بائتين أو قائلين وأو هنا للتنويع أي جاء مرة ليلًا كقوم لوط ومرة وقت القيلولة كقوم شعيب وهذا فيه نشر لما لفّ في قوله: {فجاءها} وخصّ مجيء البأس بهذين الوقتين لأنهما وقتان للسكون والدّعة والاستراحة فمجيء العذاب فيهما أقطع وأشقّ ولأنه يكون المجيء فيه على غفلة من المهلكين، فهو كالمجيء بغتةً وقوله: {أو هم قائلون} جملة في موضع الحال ونصّ أصحابنا أنه إذ دخل على جملة الحال واو العطف فإنه لا يجوز دخول واو الحال عليها فلا يجوّز جاء زيد ماشيًا أو وهو راكب.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لا يقال جاء زيد هو فارس بغير واو فما بال قوله تعالى: {أو هم قائلون} قلت: قدّر بعض النحويين الواو محذوفة ورده الزّجاج.
وقال: لو قلت جاءني زيد راجلًا أو هو فارس أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج فيه إلى واو لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حُذفت الواو استثقالًا لاجتماع حر في عطف لأنّ واو الحال هي واو العطف استُعيرت للوصل فقولك جاء زيد راجلًا أو هو فارس كلام فصيح وارد على حدّه وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث انتهى.
فأما بعض النحويين الذي اتهمه الزمخشري فهو الفرّاء، وأما قول الزّجاج في التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو لأنّ الذكر قد عاد إلى الأول ففيه إبهام وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الأول ويجوز أن يدخل في المثال الثاني فانتفاء الاحتياج ليس على حدّ سواء لأنه في الأول لامتناع الدخول وفي الثاني لكثرة الدخول لا لامتناعه، وأما قول الزمخشري والصحيح إلى آخرها فتعليله ليس بصحيح لأنّ واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حر في عطف لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالًا حتى يعطف حالًا على حال فمجيئها في ما لا يمكن أن يكون حالًا دليل على أنها ليست واو عطف ولا لحظ فيها معنى واو عطف تقول جاء زيد والشمس طالعة فجاء زيد ليس بحال فيعطف عليه جملة حالية وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كما تأتي للقسم وليست فيه للعطف إذا قلت والله ليخرجنّ وأما قوله: فخبيث فليس بخبيث وذلك أنه بناه على أن الجملة الإسمية إذا كان فيها ضمير ذي الحال فإنّ حذف الواو منها شاذ وتبع في ذلك الفرّاء وليس بشاذ بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب نثرها ونظمها وهو أكثر من رمل بيرين ومها فلسطين وقد ذكرنا كثرة مجيء ذلك في شرح التسهيل وقد رجع عن هذا المذهب الزمخشري إلى مذهب الجماعة. اهـ.